ونرجع إلى حديث شعب الإيمان؛ فهو مهم جداً في الرد على كل الفرق وعلى كلا الاتجاهين الضالين في باب زيادة الإيمان ونقصانه، فعندما يقول صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} ففي هذا القول الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال ورد لكل مذهب انحرف عن المذهب الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وهذا يتفق مع أي فطرة سليمة وأي تفكير سليم، وأي عاقل يتفكر ويتأمل في هذا الحديث فسيجد أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا مرية فيه ولا إشكال ولا نزاع فيه، فالإنسان يدخل في الإيمان بالشعبة الكبرى وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا حققها قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، فقد جاء بأعظم شعبة من شعب الإيمان، ويستلزم مجيئه بها تحقيقه لها ظاهراً وباطناً، ويستلزم تحقيق الشعب الأخرى؛ لأنها ليست منفصلة؛ بل هي شُعب عن أصل واحد، فهذه الشعبة العظمى والأساس والأصل، ثم بعد ذلك تأتي شعب الإيمان، وقد نص بعض العلماء على تعيينها وتعدادها،كما فعل ابن حبان رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، وذكر هذا عن بعض العلماء، ونحن لا يهمنا أن نعدد أشياء معينة حتى يصل الرقم إلى بضع وستين شعبة، بل المهم عندنا هو أن نوقن -بدون تفصيل ولا تعداد- أن كل طاعة من الطاعات شعبة من شعب الإيمان، وهذا يكفينا، لكن أول ما يدخل في هذه الشعب بعد الشهادة بقية أركان الإسلام الأربعة، ثم بقية الحقوق والواجبات مثل: حق الوالدين، وحق الزوج على الزوجة، والعكس...، ثم بقية الشعب، فكل طاعة إيمان، وكل نقص في الطاعة نقص في شعبة من شعب الإيمان.
وعلى هذا فإن الناس يتفاوت إيمانهم؛ لأن منهم من يأتي بخمسين شعبة، ومنهم من يأتي بستين، أو بأربعين، وهكذا، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف يجتمع في الإنسان ارتكاب الكبيرة وامتثال الطاعة، فمثلاً شخص يحافظ على الصلوات الخمس جماعة في المسجد ومع ذلك يغش في تجارته، بل ربما أكل الربا، وهذا في الواقع موجود، ولا يمكن أن نفهم هذا إلا على ضوء مذهب أهل السنة والجماعة، أما الخوارج فإن هذا عندهم كافر ليس في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وأما المرجئة فهو عندهم كامل الإيمان؛ لأنه يؤدي كل الصلوات الخمس في المسجد، نقول: كلا القولين خطأ، أما عقيدة أهل السنة والجماعة -التي هي والحمد لله وفق صريح النصوص- فإنه يمكن أن تجتمع هذه وهذه، فتجد من الناس من يزني -نسأل الله العفو والعافية- لكن قد يكون من أصحاب الأموال ويتصدق وينفق ويعطي الفقراء والمساكين، ولا يمكن أن يتصدق إلا بإيمان، وهذا واضح، وفي إنكاره مكابرة، ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة في كل الأمور الاعتقادية -والحمد لله- هو الذي يصدقه الدليل ويصدقه الواقع أيضاً، فمستحيل أن تجعل هذا الزاني مؤمناً كامل الإيمان، أو أن تقول: إنه ارتد وخرج من الملة، وهو يصلي ويتصدق، وينفق، ويجاهد.